الأربعاء، 6 يوليو 2022

مقال : المطالبات العلنية لولاة الأمور

بسم الله الرحمن الرحيم  

المطالبات العلنية لولاة الأمور

الحمد لله رب العالمين .. 

في ظل تطور وسائل التواصل الاجتماعي تطورت كثير من المفاهيم، وبعد أن كانت الخواطر والهموم يبثها كبار رجال الدولة في خواص مجالسهم، صارت هذه الخواطر بثاً علنياً يصل إلى كافة شرائح المجتمع، بل يتعدى ذلك ليصير حديثاً للآلة الإعلامية، والجميع وهو يشارك في بث هذه الخواطر يشعر بسعادة، ومتعة عرض الرأي والرأي الآخر، وكذا متعة الحوار مع شريحة واسعة من الأطياف. 


تكمن مشكلة هذا النمط السلوكي حينما يتم تداول قضايا المال والأرزاق بين فئات المواطنين في وسائل التواصل الاجتماعي، وآلية توزيع الأرزاق والمنح واستحقاقها، وفي مقابل عطاء فئة مقصورة مستحقة؛ هناك فئة أخرى طامعة ترجو النوال والعطاء أيضا. 


ومشكلة العطاء منذ صدر الإسلام إلى اليوم لم تحظ بالرضا والقبول، فإذا أعطيت فئة من الناس فلا تزال فئة أخرى طامعة، وهذا هو الذي حصل في زمن الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، يقول الحسن البصري رحمه الله: أدركتُ عثمان بن عفان رضي الله عنه على ما نقموا عليه، قلَّما يأتي على الناس يوم إلا وهم يقتسمون فيه خيرا، يقال لهم: يا معشر المسلمين، اغدوا على أعطياتكم. فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على أرزاقكم فيأخذونها وافرة، ثم يقال لهم: اغدوا على السمن والعسل، الأعطيات جاريةٌ، والأرزاق دارَّةٌ، والعدوُّ مَنفِيٌ، وذات البين حسن، والخير كثير، وما من مؤمن يخاف مؤمنا، من لقيه فهو أخوه من كان؛ أُلْفَتُهُ ونصيحته ومودته. 

قال الحسن: فلو أنهم صبروا حين رأوها لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والرزق والخير الكثير، قالوا: لا والله ما نصابرها. فوالله ما ردوا وما سلموا، والأخرى كان السيف مغمداً عن أهل الإسلام فسلوه على أنفسهم، فوالله ما زال مسلولاً إلى يوم الناس هذا، وأيم الله إني لأراه سيفاً مسلولا إلى يوم القيامة"

والمتقرر عند فقهاء الشريعة أن مطالبات ولاة الأمور لا تكون في المجالس العامة، ولا يكون في وسائل التواصل الاجتماعي، بل تكون كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية، ولكن يأخذ بيده فيخلو به، فإن قبل منه فذاك، وإلاَّ كان قد أدَّى الذي عليه. 

وعن شقيق بن سلمة، عن أسامة بن يزيد رضي الله عنهما قال: قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلِّمه فيما يصنع؟! فقال: أترون أنِّي لا أكلِّمه إلاَّ أُسمعكم؟! والله، لقد كلَّمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرًا لا أحبُّ أن أكون أوَّل من فتحه. هذا لفظ مسلم. وعند البخاري: إنِّي أكلِّمه في السرِّ دون أن أفتح بابًا لا أكون أوَّل من فتحه.

فمطالبة ولاة الأمور تكون بالطرق الشرعية وليست بالطرق البدعية التي تجلب الشر، وتفسد أكثر مما تصلح، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: وقال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله:" فالله الله في فهم منهج السلف الصالح في التعامل مع السلطان، وأن لا يتخذ من أخطاء السلطان سبيلاً لإثارة الناس وإلي تنفير القلوب عن ولاة الأمور، فهذا عين المفسدة، وأحد الأسس التي تحصل بها الفتنة بين الناس.

كما أن ملء القلوب على ولاة الأمر يحدث الشر والفتنة والفوضى.

وكذا ملء القلوب على العلماء يحدث التقليل من شأن العلماء، وبالتالي التقليل من الشريعة التي يحملونها.

فإذا حاول أحد أن يقلل من هيبة العلماء وهيبة ولاة الأمر ضاع الشرع والأمن.

لأن الناس إن تكلم العلماء لم يثقوا بكلامهم وأن تكلم الأمراء تمردوا على كلامهم، فحصل الشر والفساد.

فالواجب أن ننظر ماذا سلك السلف تجاه ذوي السلطان وأن يضبط الإنسان نفسه وأن يعرف العواقب، وليعلم أن من يثور إنما يخدم أعداء الإسلام، فليست العبرة بالثورة ولا بالانفعال، بل العبرة بالحكمة.

والحمد رب العالمين .

كتبه : ناصح إماراتي 

الأحد، 3 يوليو 2022

مقال : عبدة الكون ج 2

بسم الله الرحمن الرحيم 


سلسلة مقالات في بيان حقيقة أدعياء العلاج بالطاقة ( الريكي ) وما يتفرع عنهم من فروع 


المقال الأول : عبدة الكون ج 2 


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أما بعد ..


فقد سبق أن تكلمت في المقال السابق عن عبادة أهل الجاهلية وتعلقهم بالكواكب والأجرام السماوية كالشمس والقمر، واعتقادهم النفع في الأشجار والأحجار، وتصورهم وجود قوى روحية كامنة فيها، ثم خرجت علينا طائفة من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا يدعون الناس إلى العودة إلى تلكم الوثنيات تحت مسميات خداعة يوهمون متابعيهم بها، وهم دعاة العلاج بالطاقة الكونية وما يتفرع عنها من فروع. 


فبعض مدربي ما يسمى بتطوير الذات والتنمية البشرية يبثون السموم الوثنية بين متابعيهم، فيغرونهم بالعلاج من الأمراض المستعصية، والتخلص من الضغوط النفسية والاكتآب، ومن القيود والآصار، وتحقيق الثراء الفاحش، والأمنيات المستحيلة بواسطة قانون السر والجذب، ثم قاموا بإلباس هذه الخزعبلات لباس العلم، وما هي في الحقيقة إلا أوهام وخيالات، وطقوس وثنية، وشركيات كفرية، تتناقض مع أسس الدين وأصوله


ثم تراهم  يتشدقون باتباع كل جديد، ويتهمون من يعارضهم بالرجعية والتخلف، في حين أن المنطق والعقل السليم يقضي بعدم رد أو قبول كل جديد لأنه جديد، بل لابد لقبوله من وجود سند ودليل علمي يؤيده ويدل عليه، وإلا كان اتباعه أو رده من باب اتباع الهوى .

كما أنه ليس كل ما لبس لباس العلم كان علما صحيحاً، لأن من العلوم ما هو زيف وكذب، فلا بد من التفريق بين العلم المقبول، وبين العلم الزائف المردود، ولا يعرف ذلك إلا أهل الاختصاص، وإلا اختلطت الخرافات بالحقائق وصعب التمييز بينهما .


وإذا تأملنا في كتب دعاة الطاقة الأجانب -قبل العرب والمسلمين- ودوراتهم واستشاراتهم، لوجدناها عبارة عن فلسفات وعقائد وطقوس مأخوذة من ملل وثنية باطنية شرقية، عمادها تأليه الكون، وتعظيم الذات الإنسانية، ووصفها بأوصاف الألوهية، وذلك من خلال تأصيل عقيدة وحدة الوجود والحلول، فيدّعون الرّقيّ بالنفس الإنسانية لتحقيق الوحدة مع الروح الكونية، أو ما يطلقون عليه ( المطلق) .    


وسأحاول في هذا المقال أن أبين لك أخي القارئ طقوس هذه الجماعة وتعلقهم بالكون، بل وتأليههم له وسؤالهم إياه من دون الله تعالى.

 

فمن صور عبادة الكون التي كانت عند العرب قبل الإسلام وقلدهم فيها أدعياء الطاقة الكونية تقربهم للشمس عند شروقها وتحيتها، قال الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : " وقد تصور أهل الجاهلية الصبح ابناً للشمس تارة، وتصوروه تارة حاجباً لها. فقيل حاجب الشمس. وقيل يقال: للصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها، وكانوا يستقبلون الشمس ضحى. ذكر "الأسقع" الليثي أنه خرج إلى والده، فوجده جالساً مستقبل الشمس ضحى ".


وهذا الأمر يفعله ممارسو اليوغا حيث يستحبون ممارسة هذه الرياضة على حد زعمهم مستقبلين الشمس عند شروقها أو غروبها، فيطلقون على بعض هيئات اليوغا ( تحيات الشمس ) و (سوريا نماسكار -SUERA NAMASKAR ) وتؤدى بطقوس معينة، فلها ثمان وضعيات تمارس على اثني عشر خطوة.

وقد جاء في موقع :  (https://www.siddhiyoga.com/ar/surya-namaskar-sun-salutation  )

 تعريف هذا النوع من اليوغا بقولهم : " هي واحدة من ممارسات اليوغا الأساسية. ومع ذلك فإنّ لها أهمية كبيرة في عالم اليوغا. إنه يحفز جسمك كله، وهو صلاة الامتنان تجاه الشمس ". 

فاليوغا ليست مجرد رياضة بدنية، بل طقس وثني، فقد جاء في كتاب فلسفة اليوغا ص 5 عند تعريف مصطلح اليوغا : " الاتحاد... الرياضة الصوفية التي يمارسها حكماء الهند في سبيل الاتحاد بالروح الكونية " .


ومن الطقوس المتعلقة باليوغا ( التنفس العميق )  إذ يعتبرونه تمرينا روحانيا يهدف إلى جمع الطاقة الكونية المزعومة لأجل أن تتغلغل في الجسم، ويصرح المدعو ( أوشو ) في كتابه التسامح ص 28 فيقول : " هذا ما كان بوذا يدعو تلامذته لفعله، مراقبة التنفس، وكان يذكرهم دائما بضرورة التنبه لطاقة الحياة المنبعثة من التنفس. " 


ومن صور عبادة الكون :  اعتقادهم أنّ الكون يستجيب لطلبات الإنسان وهو ما يطلقون عليه قانون الجذب، قالت مؤلفة كتاب السر ، رواندا بيوني ص 146 : " الكون مسخر لإطاعة أوامرك. " ، بل يزعمون أن الكون يستجيب للإنسان بمجرد التلفظ بطلبه، من لحظة التفكير بهذا الطلب في عقله الباطن وقبل أن يتحرك بها لسانه، قال صلاح الراشد في حلقة السر الأول الجزء 4 ، ( 1:18) : " لا بد أن تأتي منك المبادرة، ما في شيء يتحرك في الكون لصالحك حتى تبادر .." ، وقال : " 1:35 : " متى يأتيك الجواب ، بمجرد ما تسأل، ..حين تقول يا رب ألهمني الصحة، يتحرك الكون الآن باتجاهك للصحة ... " .


بل يصرح دعاة قانون الجذب بأنه لأجل أن يلبي الكون طلبك فلا بد لك أن تضبط تردداتك وذبذباتك مع ترددات وذبذبات الكون ليتحقق الطلب، ثم يدللون على هذا الدجل والخرافة بعلم الذرات الذي يدرس في علم الفيزياء .  


ومتى كان الكون هو الذي يستجيب دعاء العباد أو طلبهم ؟

 ألم يقل الله سبحانه وتعالى: "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم" [غافر: 60] وقال : "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ" [البقرة: 186].


وإذا تأملت جميع الآيات التي يذكر الله فيها الدعاء والطلب؛ تجد أن المجيب هو الله سبحانه وتعالى وليس الكون، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى عن نوح عليه السلام: "وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ" [الأنبياء: 76].


وقال عن أيوب عليه السلام : "وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ" [الأنبياء: 83، 84].


ولما ذكر حال المشركين في البحر قال : "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ" [العنكبوت: 65]


فالذي يستجيب الدعاء والطلب والاستغاثة هو الله سبحانه وتعالى وليس الكون كما يدعي أدعياء قانون الجذب.


ولأجل التدليس على المتابعين نجدهم يستدلون على باطلهم بآيات من كتاب الله، كما فعل صلاح الراشد في حلقة السر الأول الجزء 4 ، الدقيقة (3:00)  مستدلاً على أن الله هو الذي يستجيب فقال : " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب .. " صفتين : قريب وأجيب ، وفي الآية الأخرى ... " ادعوني أستجب .." يقال في علم الطاقة : في نفس اللحظة بسرعة البرق .... " ا. هـ.

وقبل ذلك قرر أنّ الذي يستجيب للأماني والطلب هو الكون.

فهو بين أمرين : 

الأول : أن الذي يستجيب هو الله وليس الكون، وعليه بطل السر الذي يدعونه. 

الثاني: أن الذي يستجيب هو الكون، ومقصده من الاستدلال بالآيتين أنّ الكون والله شيء واحد – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- وهي عقيدة وحدة الوجود، التي تنص على أن العالم هو عين وجود الإله أو ما يسمى في الملل الوثنية ( المطلق ).

وفي الحلقة التي قبلها قال صلاح الراشد (6:56) : " مصدر الطاقات كلها- كل الطاقات- هو الله سبحانه وتعالى – " 

وللأسف فهذه محاولة للدمج بين عبادة الدعاء المشروعة، وبين فكرة الجذب الشركية وعلم الطاقة الوثني للتدليس على المستمعين من خلال الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية .   


وإلا فإن الطاقة الكونية في الفكر الوثني هي الحقيقة المطلقة، التي يرتقي لها الإنسان ليتحد معها بواسطة الاستنارة أو الإشراق حسب زعمهم . 


ومن صور تعلق مروجي الطاقة الكونية وقانون الجذب بالكون استعمالهم للرقم ( 369 ) والذي يطلقون عليه كود الكون، فالذي يستعمل هذه الأرقام ويفهمها ستتحقق له أمنياته، وسيمتلك مفتاح الكون . 


ولما سأل مقدم برنامج ( الليوان ) " سمية الناصر "  - وهي من مروجي هذه العلوم في زماننا - عن سر هذا الرقم وسبب استعمالها له، أجابت بقولها : " هذه أرقام الخلق ... اللي موجودة في كثير من الأديان .. وموجودة في القرآن الكريم، لما يقول الله : ( وكان في المدينة تسعة رهط ) ... وأدوار خلق الإنسان في الرحم، ثلاثة أشهر تنفخ فيه الروح،  وبعدها ستة أشهر يكون صالح للعيش، وتسعة أشهر يكتمل حياته ، ...هذه الأرقام اعتمد عليها الكون ... واستخدمت في القرآن كثيرا..

فسألها المقدم : من قال أن هذا الرقم متسق مع الكون ؟

فأجابت : الله  .. " ا. ه

وإذا بحثنا عن هذا الرقم لوجدنا أنّ الذي أشار إليه عالم الفيزياء (نيكولا تسلا)، وصل إليه عن طريق عملية حسابية، ثم ادعى دعاة الطاقة الكونية وقانون الجذب أنّ الرقم (369) هو سر هذا الكون، وبنوا عليه جملة من الأكاذيب والتجارب الوهمية، ثم تقوم – وللأسف – سمية الناصر بالاستدلال على هذا الرقم وأسراره الكونية المزعومة بالقرآن الكريم، وتدعي أن هذه الأسرار قد ذكرها الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل يقول : " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ " [الأنعام: 21]   .


ومن صور تعلقهم بالكون ما يطلقون عليه دورات ( العطاء والوفرة )  التي يزعمون فيها بأن عقل الإنسان يتفاعل مع الكون، وأنّ طاقته تعبير عن الطاقة الكونية، وأنّ تعبيره وتفكيره عطاء يعود بعطاء من الكون، وبناء على الأخذ والعطاء الصادر من الانسان يحدث التفاعل مع الكون، قال شوبرا في كتابه القوانين الروحانية السبعة للنجاح ص 43 : " كلما أعطيت أكثر ازدادت ثقتك بالربح الوفير الذي يغدقه عليك هذا القانون المعجز".


وعليه فالطاقة الكونية هي التي تجود على الإنسان بالعطاء والجزاء، في حين أنّ المسلم يعتقد أن المعطي هو الله سبحانه وتعالى وليس الكون، قال الله سبحانه في قصة موسى عليه السلام وفرعون: " قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49، 50]، فالمعطي هو الله سبحانه وتعالى،  وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – " مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ ، وَاللَّهُ الْمُعْطِى وَأَنَا الْقَاسِمُ ..." رواه البخاري، وقد دلت النصوص الصريحة على أنّ الذي يجازي بالخير هو الله سبحانه وتعالى، وأن الذي يعطي العبد طلبه هو الله سبحانه وتعالى، وليست الطاقة الكونية كما يزعم أدعياؤها . 


ومن صور تعلقهم بالكون ما يطلقون عليه ( دورات قانون النية ) التي وصفها مؤلف كتاب قوة العزيمة (وأين داير) ص 21 بأنّها : " إحدى القوى الكونية التي لا تقهر". فكل شيء في الكون يرتبط بنية الإنسان وعزيمته، ومن هذا المنطلق يقوم بعض مدربي الطاقة كصلاح الراشد ومن سار على منهجه وفكره بعقد دورات مختصه بالنيات وإرسالها للمشاركين عبر المسارات الكونية.

وبخصوص طقوس إرسال النيات فقط قدم صلاح الراشد لكتاب : " تجربة النية " الذي بين الطريقة وملخصها : 

اختيار مكان النية بالقرب من الأماكن الطبيعية، ثم شحذ الطاقة عن طريق التأمل والتنفس، مع ترديد مانترا ( أوم) - وللعلم هذه الكلمة من الطقوس الوثنية الشركية - ، ثم الوصول إلى الذروة عن طريق التأمل، وتخيّل الاندماج التام مع المستهدف بنيتك، وعليك آنذاك أن تصيغ نيتك . 

وهذه الطقوس وثنية تعتمد على عقيدة الاتحاد بالكون والوجود، ثم تقدم للناس على أنها وسيلة للعلاج، ونشر السلام، وتراهم ينشرون في حساباتهم في كل شهر ما يسمونه (نية الشهر ) . 

ومن الأمثلة تغريدة سمية الناصر على حسابها في تويتر حيث قالت: 

نية شهر جون - تقصد شهر يوليو- : توازن الذكورة والأنوثة ... أنوي موازنة الأنوثة والذكورة بأيسر الطرق .

ثم ترى المتابعين لها يكتبون : " أنوي موازنة الأنوثة والذكورة بأيسر الطرق " 

ثم يضعون الصورة التي تم اختيارها في خلفيات هواتفهم وأجهزة الحاسوب الخاصة بهم، ويرتبطون بها خلال الشهر بأكمله . 

ومن المعلوم بطلان هذه الادعاءات، فالنية من أعمال القلوب، التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وتختص بجانبين : 

الأول: إفراد الله بالعبادة والقصد والتوجيه، كما قال تعالى : " {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5]

الثاني: نية العبادة، كما قال صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى .." متفق عليه . 

وهذه النية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى . 

وأما إرسال النيات للآخرين، فهو من البدع المحدثات، التي لم يدل عليها دليل شرعي، ولا علم تجريبي، بل أوهام وخزعبلات في عقول مروجي الإلحاد والطقوس الوثنية.


فتبين لك أخي القارئ بطلان ما عليه مروجو الطاقة الكونية وقانون الجذب والسر من الباطل، وتبين لك تعلقهم بالكون، ومشابهتهم لأهل الجاهلية في عبادة غير الله سبحانه وتعالى. 


فالكون بالنسبة لهم هو من يلبي طلباتهم وأمنياتهم، وهو من يستقبل نياتهم، وهو وسيلة التخاطر بينهم، فلا يغتر المسلم بخداعهم ومحاولتهم أسلمة هذه الطقوس الوثنية الشركية، ومحاولة صبغتها بالصبغة الدينية، وعلى المسلم أن يهتم بجانب العقيدة وتعلمها لأجل ردّ كل شبهة، وعدم التأثر بأي عقيدة فاسدة مستوردة، فنجاة العبد يوم القيامة لا تتحقق إلا بسلامته من شهوات المعاصي، وشبهات الدين، قال الله سبحانه : "يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " [الشعراء: 88، 89] 

فاللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك .

والحمد لله رب العالمين .

الثلاثاء، 14 يونيو 2022

مقال : عبدة الكون ج 1

بسم الله الرحمن الرحيم 

سلسلة مقالات في بيان حقيقة أدعياء العلاج بالطاقة ( الريكي ) وما يتفرع عنهم من فروع  

                                   المقال الأول : عبدة الكون ... ج 1  


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله، أما بعد ..


    فإنّ الله سبحانه وتعالى قد أرسل رسله إلى الناس ليدعوهم إلى عبادته وحده دون سواه، وترك الشرك به والكفر بالطواغيت التي عُبدت مع الله، قال الله سبحانه وتعالى: "{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36].


    والأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى يقتضي إخلاص التوجه والقصد له بكل ما شرعه، قال الله سبحانه : "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ " [البينة: 5].


    ومن تلكم العبادات التي أمر الله بإخلاصها له دون سواه عبادة الدعاء، فإنه من أعظم العبادات التي أمر الله بها، بل يُحب عبدَه أن يسأله ويدعوه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ . "  ثم تلا قول الله سبحانه وتعالى : "وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ" [غافر: 60] رواه أبوداود والترمذي.

 

بل عاب الله على من سأل غيره، فقال : " وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ" [غافر: 60]، فتأمل كيف أمر بدعائه، وسمى الدعاء عبادة، ثم توعد المستكبرين عن الدعاء بقوله : " إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. "


والنبي صلى الله عليه وسلم كان يرشد الصحابة رضوان الله عليهم إلى سؤال الله والتوجه إليه بجميع حاجاتهم، فقال لابن عباس : " إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ " رواه الترمذي  


أما كفار قريش فقد كانوا يدعون الأصنام والأوثان ويسألونها حاجتهم، من طلب رزق، أو جلب نفع، أو دفع ضر، ومنهم من يسأل الكواكب والنجوم، ومنهم من يسأل الجن ويستعيذ بهم، والله عز وجل اعتبر ذلك شركاً وكفراً، فقال : " وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ، إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 13، 14] 


وكان في العرب من يعبد الكواكب والنجوم والشمس والقمر، ويتقرب لها بالسجود، وقد نهاهم الله عن ذلك فقال : "وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" [فصلت: 37]


وقد ذكر بعض أهل التاريخ طرفاً من أخبارهم في ذلك، فالصنم ( ود) يرمز إلى القمر، كما تألهوا كوكب الزهرة وأطلقوا عليه اسم " عثتر و عثتار " 

ينظر : " المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام . (3/114) " 

قال الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام : " وألّه بعض الناس الظواهر الطبيعية؛ لتوهمهم أن فيها قوى روحية كامنة مؤثرة في العالم وفي حياة الإنسان، مثل الشمس والقمر وبعض النجوم الظاهرة، وقد كانت الشمس والقمر أول الأجرام السماوية التي لفتت أنظار البشر إليها، ... فكانا في مقدمة الأجرام السماوية التي ألهها الإنسان، عبدهما مجردين في بادئ الأمر، أي دون أن يتصور فيهما ما يتصور من صفات ومن أمور غير محسوسة هي من وراء الطبيعة.

 فلما تقدم وزادت مداركه في أمور ما وراء الطبيعة، تصور لهما قوى غير مدركة، وروحًا، وقدرة، وصفات من الصفات التي تطلق على الآلهة. فخرجتا من صفتهما المادية البحتة ومن طبيعتهما المفهومة، وصارتا مظهرًا لقوى روحية لا يمكن إدراكها، إنما تدرك من أفعالها ومن أثرهما في هذا الكون.

وإذا كانت هذه العبادة قد اقتصرت على الظواهر الطبيعية البارزة المؤثرة، فإن هناك توسعًا في هذه العبادة تراه عند بعض الأقوام البدائية، يصل إلى حد تقديس الأحجار والأشجار والآبار والمياه وأمثال ذلك؛ إذ تصوروا وجود قوى روحية كامنة فيها، فعبدوها على أن لها أثرًا خطيرًا في حياتهم. " ا.هـ  

(المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. (11/22) باختصار


فجاءت شريعة الإسلام وأمرت بتوحيد الإله المعبود وهو الله سبحانه وتعالى، والكفر بكل ما اتخذ آلهة معه، وهذا هو معنى كلمة التوحيد ( لا إله إلا الله) والتي تتضمن نفياً وإثباتاً، نفي الإلهية عن كل ما عُبد من دون الله، وإثباتها لله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه: "ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ " [الحج: 62]


وفي الآونة الأخيرة ظهر من يدعو لتلكم الوثنية، ولدعاء غير الله بصورة عصرية وتحت شعارات براقة ومسميات جديدة، كالعلاج بالطاقة الكونية، وقانون السر أو الجذب أو الطلب أو الطب البديل أو الرياضة الروحية (اليوغا) ونحو ذلك . 


وحقيقة العلاج بالطاقة (الريكي) وقانون الجذب ونحوها تتمركز حول الكون، مع إعطاء صفة الربوبية والإلهية له . 


وبنظرة خاطفة على أبرز عناوين مقاطع العلاج بالطاقة أو قانون الجذب في الشبكة العنكبوتية يظهر ذلك جلياً، فيطلقون على برامجهم عناوين مثل :  رسالة من الكون، وآخر أطلق على برنامجه اسم :  فهم الرسائل الموجه إليك من الكون، وغيرها كثير.


وأثناء استماعي لهذه المقاطع شدني الخلط العجيب بين الدعوة لسؤال الكون وبيان قدرة الكون على تلبية طلبك بمجرد النية دون التلفظ، وبين الاستدلال على هذه الشركيات بآيات من كتاب الله وأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لتضليل المستمع والمتابع، وإيهامه بأن سؤال الكون واستجابته لك مما قررته الشريعة وورد في القرآن، لدرجة أن أحد منظري هذا الفكر يقول : " لديه مائة دليل على مشروعية قانون الجذب من الكتاب والسنة. "


في حين أن قانون الجذب مأخوذ من كتاب السر للكاتبة روندا بايرين - استرالية الجنسية، تعمل كاتبه ومنتجة تلفزيونية من مواليد 1951م -، وهذا الكتاب ذاع صيته وانتشر تحت مظلة تطوير الذات .  


فكيف لهذه الكاتبة غير المسلمة أن تهتدي لأمر غاب عن علماء المسلمين، وتُظهر للعالم قانوناً قد تواترت الأدلة من الكتاب والسنة عليه، ولكن للأسف لم يتنبه له علماء المسلمين، إنّ هذا لشيء عجاب !! 


كيف يكون سؤال غير الله مشروعاً، وقد تظافرت الأدلة النقلية والعقلية على بطلان سؤال غيره، بل في إقرار هذا القانون ( قانون الجذب) هدم لكافة الشرائع، وطعن في دعوة جميع الرسل والأنبياء .  


سأتطرق بإذن الله في المقال القادم -بإذن الله -  إلى صور عبادة الكون عند دعاء الطاقة الكونية (الريكي) ودعاة استعمال قانون الجذب، لكشف حقيقة هذا العلم الزائف . 

والحمد لله رب العالمين . 

الثلاثاء، 18 مايو 2021

مقال: أسس حماية الشباب من الانحراف

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 

    فمن المعلوم أنّ الدول والمجتمعات لا تستطيع المحافظة على استمرار وجودها وتقدمها ورقيها إلا بفضل الله أولا، ثم عن طريق إعداد أجيالها المتعاقبة الإعداد السليم المتكامل، وبقدر ما تحافظ الدول والشعوب على تربية هذه الأجيال تربية صحيحة تقوم على التمسك بدينها وعقيدتها وأخلاقها، بقدر ما تحافظ على بقائها وعلو شأنها، ولا تفسد المجتمعات إلا حين تفسد أجيالها، ولا ينال الأعداء من أمة إلا نالوا من شبابها وصغارها.


لذلك وجهنا الإسلام إلى الاهتمام والعناية بالشباب وتنشئتهم التنشئة صالحة، على أسس قوية وسلمية .

 

     فالشبابُ يُعتَبر ثروة الدولة الغالية وذخرها الثمين، يكون خيرا ونعمة حين يُستَثمر في الخير والفضيلةِ والبناء، ويغدو ضررا مستطيرا وشرّا وبيلاً حين يفترسه الانحراف فكرياً كان أو سلوكياً.


      فالانحرافُ في مرحلة الشّباب خطيرٌ، فمنحرفُ اليوم هو مجرمُ الغدِ، ما لم تتداركه عنايةُ الله، ولذلك حث نبينا صلى الله عليه وسلم على اغتنام مرحلة الشباب قبل المشيب، فقال لِرَجُلٍ وَهُوَ يَعِظهُ : " اِغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْل خَمْس ، شَبَابك قَبْل هَرَمك ، وَصِحَّتك قَبْل سَقَمك ، وَغِنَاك قَبْل فَقْرك، وَفَرَاغك قَبْل شُغْلك ، وَحَيَاتك قَبْل مَوْتك " رواه الحاكم  ، والغنيمة لا تكون إلا لشيء يُخشى فواته وضياعه إن لم يُتدارك ويستغل.


وقد خُصت هذه المرحلة بالمسؤولية والسؤال عنها يوم القيامة، فروى الترمذي عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لاَ تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ، عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ."


    ومما لا شك فيه أن الواجب في هذه المجتمعات مشترك بين المسلمين جميعا شباباً وشيوخاً ، ولكن خُص الشباب بالذكر لأنها مرحلة مهمة جداً في حياة المسلم نفسه، وفي حياة المجتمع، فهم الذين يقومون بالواجب بعد رحيل الجيل الذي سبقهم .


كما أن لديهم من النشاط والحيوية ما يمكنهم من تحقيق أهدافهم بسرعة وبكفاءة عالية، مما يسهم في خدمة دينهم ووطنهم، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَاهُ زَيْداً أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ قَالَ: زَيْدٌ ذُهِبَ بِي إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَأُعْجِبَ بِي، فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: هَذَا غُلاَمٌ مِنْ بَنِى النَّجَّارِ مَعَهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ بِضْعَ عَشْرَةَ سُورَةً، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَال: " يَا زَيْدُ تَعَلَّمْ لِي كِتَابَ يَهُودَ فَإِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي ". قَالَ زَيْدٌ: فَتَعَلَّمْتُ كِتَابَهُمْ، مَا مَرَّتْ بِي خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حَتَّى حَذَقْتُهُ، وَكُنْتُ أَقْرَأُ لَهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ، وَأُجِيبُ عَنْهُ إِذَا كَتَبَ" 

فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من زيد وهو غلام في مقتبل عمر الشباب أن يتعلم اللغة السريانية، فتعلمها في أقل من شهر. 


    ولأجل أن يقوم الشباب المسلم بدوره الصحيح في مجتمعهم فلا بد من إعداده الإعداد السليم، ولقد أرشدنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى سلوك الطريق الصحيح في تربية هذا النشء ، بدءاً من اختيار الزوجة الصالحة المؤمنة التي تعتبر بحق هي المدرسة الأولى لتربية الشباب منذ طفولتهم، فتزرع فيهم الأخلاق الحسنة والمبادئ السامية فينشؤوا على أرض صلبة وأساس متين.


    وقد ضربت نساء السلف أروع الأمثلة في ذلك ، فهذه أم سفيان الثوري تقول لولدها : يا بني اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي" فما هي النتيجة ؟ أصبح من أعلام الدنيا وأئمة الدين، قال الذهبي في ترجمة الثوري: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه" ، وكذلك أبوحنيفة والشافعي وأحمد – رحم الله الجميع - إنما قامت أمهاتهم على تربيتهم وتنشئتهم فأصبحوا أئمة الدنيا وأئمة الدين.


    ومن الأمور التي تحصن الشباب وتربيهم التربية الحسنة تنشئتهم على العقيدة الصحيحة وربطهم بربهم سبحانه وتعالى، ولقد وضع النبي صلى الله عليهم وسلم منهجاً واضحاً للآباء والمربين لتربية الشباب حينما وجه هذه الوصية لابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنه الله عنهما، التي تمثل أساسا صلبا ينشأ عليه الشاب فقال له: ((يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ : احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ." رواه الترمذي.


    فأول لبنة في بناء الشباب لبنة العقيدة السليمة، فقوة الإيمان وصدق التعلق بالله وحده يقوم على أسس، منها حفظ الله بحفظ حقوقه وحدوده وحفظ أمره ونهيه، ومن ثم الاستعانة به وحده في الأمور كلها والتوكل عليه واليقين الجازم بأنه بيده سبحانه الضر والنفع، وإنما يتحصل الشاب على هذه الأسس عن طريق العلم الشرعي.


    والعلم الشرعي والعقيدة الصحيحة إنما تُتلقى على أيدي الأمناء من علماء أهل السنة والجماعة الذين يربون الناس على صغار العلم قبل كباره، ويربطون الناس بالكتاب والسنة، ولا يرتبطون بأحزاب ولا بتنظيمات، قال أيوب السختياني: "إن من سعادة الحَدَث والأعجميّ أن يوفقهما الله لعالمٍ مِنْ أهل السنة " وقال عمرو بن قيس الملائي: "إذا رأيت الشاب أوّل ما ينشأ مع أهل السنة والجماعة فارْجُه، وإذا رأيته مع أهل البدع فايْأس منه؛ فإنّ الشاب على أوّل نشوئه."


فالناس لا يزالون بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم فإن أخذوه عن أصاغرهم هلكوا، والأصاغر هم علماء السوء وأتباعهم من أهل البدع والضلالات وأصحاب الأفكار المنحرفة، وإذا ما انفصل الشباب عن العلماء الربانيين وارتبطوا بعلماء السوء تلقفتهم التيارات المنحرفة من خلال الجرائد أو الفضائيات أو الإنترنت فأصبحوا لقمة سائغة لأصحاب الأغراض السيئة  .


      ومن أسس تربية الشباب وحفظهم حفظ شهواتهم وعرائزهم،  ها هو نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه ينادي الشباب ليوجههم إلى حفظ شهواتهم وغرائزهم حتى لا يسقطوا في وحل الإثم والمعصية، فقَالَ صلى الله عليه وسلم ( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ ) متفق عليه


    ومن المنهج النبوي في تربية الشباب ذكورا كانوا او إناثا تعويدهم على العبادة منذ نعومة أظفارهم قال صلى الله عليه وسلم (مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ ) رواه أبوداود، فبالرغم من أن ابن السابعة ليس مكلفا بالواجبات ولكنه يؤمر بالصلاة لأجل أن يعتادها ويألفها فتنطبع في ذهنه ، وذلك لأن الصلاة فيها سر عظيم في تربية النشء على الإسلام الصحيح قال تعالى في ذلك " وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ " . العنكبوت:45

ثم قال صلى الله عليه وسلم (وفرقوا بينهم في المضاجع ) أي لا تتركوهم ينامون تحت غطاء واحد أو على فراش واحد خشية أن يطلع بعضهم على عورات بعض فتقع الفتنة التي لا تحمد عاقبتها .


    فالتربية مسؤولية عظيمة ملقاة على عاتق المربين، وليست مجرد رعاية يقدمها المربي لأولاده، بل غرس للعقيدة الصحيحة، والمبادئ السليمة، والعادات والقيم النبيلة، مع تقويم السلوك ليتماشى مع الأسس والثوابت التي نشأ عليها أهل الإسلام.

ولن يستطيع الشباب أن يسهموا في نهضة بلادهم دون أن يتم تربيتهم على أسس وقواعد تحميهم من الانحراف، وتضمن لهم تربية سليمة . 

ودمتم بخير، والحمد لله رب العالمين . 


الاثنين، 19 أبريل 2021

مقال : من هدايات سورة الملك (تبارك الذي بيده الملك )

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد 


فإن الله سبحانه وتعالى قد أنزل كتابه لمقاصد عظيمة، من أعظمها تدبر آياته، والوقوف على معانيها وحكمها ومقاصدها، قال الله سبحانه وتعالى : " {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].


ومن سور القرآن التي تكثر قراءتها ولها فضل عظيم ويحتاج المسلم إلى التأمل في آياتها والوقوف على الهدايات التي تضمنتها سورة الملك ( تبارك الذي بيده الملك ).


فيحسن بنا أن نقف على أهم مقاصد وهدايات هذه السورة المباركة، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم عنها : " أَنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلاَثِينَ آيَةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حَتَّى غُفِرَ لَهُ وَهِىَ ( تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ) " رواه أحمد وغيره، وحسن اسناده بعض أهل العلم .


فمن هدايات هذه السورة المباركة بيان أنّ الله سبحانه وتعالى هو مالك الملك، المتصرف في هذا الكون والمدبر لشؤونه، وقد بدأ السورة بقوله : " {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [الملك: 1] ، فالله سبحانه هو المتصرف في جميع المخلوقات بما يشاء، لا يُسأل عما يفعل لقهره وحكمته وعدله، كما ذكره ابن كثير في تفسيره.

وقد ذكر الله سبحانه في السورة أنه خالق الموت والحياة، وخالق السموات والأرض، وخالق الإنسان والحيوان، ومُوجد الزرق بأنواعه، فهو المالك لكل ذلك المتصرف فيه.

ومن تدبيره لملكه وخلقه أنه يجازي المحسن على إحسانه، والكافر على تكذيبه وعدم الإيمان به، قال سبحانه: ": {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الملك: 6].

ومن تدبيره لملكه إنزاله العقوبة على مستحقها في الدنيا قبل الآخرة، قال سبحانه : " {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].

ومن تدبيره لملكه نصر عباده على عدوهم، فإن تخلى عنهم فلا ناصر لهم، قال سبحانه : " {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20].

ومن تدبيره لملكه تيسيره الرزق للخلق، وحصولهم على الماء الذي هو أساس حياتهم، فإن حرمهم منه هلكوا، قال سبحانه : " {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30]


فإذا علم العبد هذه الهداية وأن الله سبحانه وتعالى مالك الملك، مدبر شؤونه وحده لا يشاركه في ذلك أحد، تعلق قلبه بالله سبحانه، ووحّدَهُ بالعبادةِ دون سواه. 


ومن هدايات هذه السورة المباركة أنّ الله سبحانه هو خالق الخلق، فالسموات السبع ما فيها، والأرض وما عليها، والإنسان وما جعل فيه من سمع وبصر وفؤاد، والحيوان على اختلاف أنواعه وأجناسه خالِقُهُ الله وحده دون سواه، قال تعالى : " { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك: 14].


فإذا علم العبد هذه الهداية أوجب له اخلاص العبودية له سبحانه.


وفي هذه الآيات الرد على من يدعي أن السموات السبع والأرض وجدت بنظرية الانفجار العظيم أو ما يسمى بنظرية تعدد الأكوان، وأن الإنسان متطور من كائنات أخرى نشأت من خلية بسيطة، ومع الطفرات العشوائية والتطور وُجد الإنسان، فالله يقول في السورة : " {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الملك: 23، 24]


وفي السورة إثبات المعاد والحساب يوم القيامة، وإثبات العقوبة بالنار للمخالف المكذب للرسل، وبيّن الله سبحانه أنه لا يعلم أحد من الخلق هذا الموعد، ولكنه حق لا مرية فيه، وأما المكذبين بالمعاد وقدرةِ الله عليه، وباليوم الآخر فسيلحقهم الندمُ لمّا يرون الأمر رأي عين، قال تعالى : " {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ } [الملك: 27]


وإذا علم العبد أنّه إلى الله راجع، علم أنّه موقوف بين يده ومسؤول ومحاسب، فليعدّ للسؤال جوابا. 


وفي السورة إثباتُ قدرةِ الله سبحانه وتعالى، فقال في أول السورة : " {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1]، والسورة من أولها إلى آخرها إثبات لقدرة الله عز وجل ، ومن ذلك : 

خلقه الحياة والموت، وخلقه سبع سموات باتقان، وتزيينه السماء بالنجوم التي هي رجوم للشياطين، وخلقه النار وبيان شيء من صفتها، واحاطة علم الله سبحانه بالسر والجهر، وقدرته عز وجل على عقاب المخالف في الدنيا قبل الآخرة، وخلقه الطير يطير في السماء لا يمسكه أثناء الطيران إلا الله، وقدرته على نصرة عباده وإن قلّ عددهم وعتادهم، فإن تخلى عنهم فلا يمكن لأحد أن ينصرهم من دونه، وقدرته على رزق جميع الخلق، ولا يمكن لأحد أن يرزق أحداً إن منع رزقه عنهم، وخلقه الإنسان وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وانفراده سبحانه بالنعم خصوصا الماء، ولا يقدر أحد على جلبه وتوفيره إن جعله الله غائراً. 


فإذا علم العبد ذلك أوجب له خشوعا لربه في قلبه ورهبة وخوفاً منه ورجاءً إليه، وانقيادا وتسليما لأمره ونهيه . 


ومن الهدايات المتضمنة في سورة الملك إثبات إرسال الله للرسل والأنبياء، ووجوب تصديقهم والإيمان بما جاؤوا به من عند الله، وأن العقل السليم هو المتبع لهم، قال تعالى : " {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10]


كما ذكر الله سبحانه وتعالى في السورة الفرق بين أهل الهداية وأهل الضلال والتكذيب فقال : " { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الملك: 22]، وبيّن صفات أهل الهداية والتي منها أنّهم يخشون ربهم بالغيب، ويشكرونه على نعمه التي رزقهم، ويصدقون بما جاءت به الرسل، ويؤمنون بالله ويتوكلون عليه.


هذا كله يوجب للعبد الذي يرجو النجاة يوم القيامة أن يحقق الإيمان بالله سبحانه وتعالى كما أراده الله وبينه، فيوحده ويصرف العبادة جميعها له دون سواه، وأن يعتصم بما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ففي ذلك النجاة والعصمة عن الضلال . 


ومن تأمل سورة الملك يجد أن الله سبحانه وتعالى قد ختم بعض الآيات ببعض الأسماء الحسنى، فقال : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] ، فختم الآية باسمين من أسمائه وهما : العزيز والغفور ،  وقال : " {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ختم الآية باسمين من أسمائه " اللطيف" و اسم " الخبير " 

وذكر سبحانه في السورة أفعاله الدالة على قدرته وعظيم ملكه وسلطانه : 

فهو " {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك: 2]

وهو "{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3]

وقال سبحانه " {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] 

وهو سبحانه : " { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 13]

وقال : " {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15]

وقال : " {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16]

وقال : " {أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17]

وقال : " {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19]

وقال : " {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ } [الملك: 20]

وقال : " { أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21]

وقال : " {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ } [الملك: 23]

وقال : " {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [الملك: 24]


فمن تأمل هذه الأفعال رأى عظيم قدرة الله سبحانه وتعالى في تدبير ملكه وخلقه، مما يزيده تعلقاً بالله وحباً له وتقرباً إليه. 


ما ذكرته شيءٌ يسير من هدايات هذه السورة ومضامينها، فعلى المسلم إذا تلى هذه السورة أن لا تغيب عنه هذه الهدايات، وإذا قرأ آيات الله سبحانه وتعالى فعليه أن يمعن نظره وفكره فيها، فهذا الأمر يزيده معرفة بربه، وإيمانا به. 


وفقني الله وإياكم لكل خير والحمد لله رب العالمين .


الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

مقال : الشفاعة عند أهل السنة والجماعة

              بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد.

فإنّ من أصول وقواعد أهل السنة والجماعة في توحيد الألوهية: لا يملك أحد أن يشفع لأحد يوم القيامة إلا بشرطين : الإذن من الله للشافع بأن يشفع، والرضا عن الشافع وعن المشفوع له. " 

فما هي الشفاعة، وما هي أنواعها ، وما عقيدة أهل السنة فيها ؟ 

أولا : معنى الشفاعة .

مأخوذ من شفع يشفع إذا طلب، فالطالب واحد فإذا أتى معه آخر صار شفعاً له بعد أن كان فرداً، فيضم المطلوب منه طلبه إلى الطالب فيرفعه إلى من عنده الأمر.

وفي الاصطلاح : ما يُطلب من الله بشروطه الشرعية، أو التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.

ثانيا : أنواع الشفاعة.

الشفاعة الواردة في القرآن والسنة  تنقسم إلى قسمين : شفاعة منفية ، وشفاعة مثبتة ، وبعض أهل العلم يقسمها إلى : شفاعة باطلة، وشفاعة صحيحة . 

فالشفاعة المنفية : هي التي نفاها الله - جل وعلا - عن أهل الشرك ، قال تعالى { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ } فنفى ا الله عن جميع الخلق ، بما في ذلك الذين يخافون وهم أهل التوحيد ، كما نفاها عن غيرهم . أما عن أهل التوحيد فهي منفية عنهم إلا بشروط ، وهي : إذن الله للشافع أن يشفع ، ورضاه - جل وعلا - عن الشافع وعن المشفوع له.

ومن الشفاعة المنفية: الشفاعة التي تكون من غير إذن الله ولا رضاه، وتكون بطلبها ممن لم يُمكَّن من ذلك. 

ثانيا : الشفاعة المثبتة : وهي الشفاعة التي توفرت فيها الشروط الشرعية، وأعظم هذه الشروط شرطي الإذن والرضا، قال تعالى : "وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى" وقال سبحانه : " وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ" وقال سبحانه :" وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ" 

ثالثا : دليل الشفاعة . 

أولا : الشفاعة ملك خالص لله تعالى،  قال الله سبحانه وتعالى سبحانه تعالى : " أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" 

قال ابن كثير في التفسير (7/102): يَقُولُ تَعَالَى ذَامًّا لِلْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ شُفَعَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَهُمُ الْأَصْنَامُ وَالْأَنْدَادُ، الَّتِي اتَّخَذُوهَا مِنْ تِلْقَاءِ أَنْفُسِهِمْ بِلَا دَلِيلٍ وَلَا بُرْهَانٍ حَدَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَهِيَ لَا تَمْلِكُ شَيْئًا مِنَ الْأَمْرِ، بَلْ وَلَيْسَ لَهَا عَقْلٌ تَعْقِلُ بِهِ، وَلَا سَمْعٌ تَسْمَعُ بِهِ، وَلَا بَصَرٌ تُبْصِرُ بِهِ، بَلْ هِيَ جَمَادَاتٌ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْحَيَوَانِ بِكَثِيرٍ . 

ثُمَّ قَالَ: قُلْ: أَيْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلَاءِ الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَا اتَّخَذُوهُ شُفَعَاءَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، أَخْبِرْهُمْ أَنَّ الشَّفَاعَةَ لَا تَنْفَعُ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ وَأَذِنَ لَهُ، فَمَرْجِعُهَا كُلّهَا إِلَيْهِ " 

فإذا تقرر ذلك وأن الشفاعة منفية عن كل أحد سوى الله - تعالى - لأنه هو الذي يملك الشفاعة وحده ، بطل تعلق قلوب المشركين - الذين يسألون الموتى الشفاعة -  بمسألة الشفاعة ؛ لأن الشفاعة ملك لله ، وهذا المدعو لا يملكها.

ثانيا: يشفع الشافعون يوم القيامة بعد إذن الله تعالى للشافع، ورضاه عن الشافع والمشفوع فيه. 

أما دليل الإذن فقول الله سبحانه وتعالى : " مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ " وهذه الصيغة من صيغ العموم التي لم يخرج عنها أحد، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي البخاري قال صلى الله عليه وسلم "فَيَأْتُونِى فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ عَلَى رَبِّى فَيُؤْذَنُ { لِي } فَإِذَا رَأَيْتُ رَبِّى وَقَعْتُ سَاجِدًا ، فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ يُقَالُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَقُلْ يُسْمَعْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ." 

وقول الله تعالى : " يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا" 

أما دليل الرضى عن الشافع والمشفوع فيه فقوله تعالى : " وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ " 

وقد جمعها الله في قوله " وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى"

وهنا فائدة ذكرها الشيخ محمد بن صالح العثمين رحمه الله عن الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم فقال في  شرح العقيدة الواسطية  (2/ 168) : " لكن الشفاعة العظمى في الموقف عامة لجميع الناس من رضي الله عنهم ومن لم يرض عنهم. " 

رابعا : للنبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث شفاعات:

1 - الشفاعة العظمى، دل عليها ما رواه البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم : " فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - فَيَقُولُونَ يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِي ثُمَّ يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، سَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي ، فَأَقُولُ أُمَّتِى يَا رَبِّ ، أُمَّتِى يَا رَبِّ .." 

2 - والشفاعة لأهل الجنة ليدخلوا الجنة، وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط؛ وقفوا على قنطرة، فيقتص لبعضهم من بعض، وهذا القصاص غير القصاص الذي كان في عَرَصات القيامة، بل هو قصاص أخص، يطهر الله فيه القلوب، ويزيل ما فيها من أحقاد وضغائن؛ فإذا هُذِّبوا ونُقّوا؛ أُذن لهم في دخول الجنة، ولكنهم إذا أتوا إلى الجنة؛ لا يجدونها مفتوحة كما يجد ذلك أهل النار؛ فلا تفتح الأبواب، حتى يشفع النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهل الجنة أن يدخلوها.

وهاتان الشفاعتان خاصتان بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وهناك أيضًا شفاعة ثالثة خاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، لا تكون لغيره، وهي الشفاعة في عمه أبي طالب.

3 - والشفاعة فيمن استحق النار من عصاة المؤمنين ودخلها بأن يخرج منها. 

خامسا : الشفاعة يوم القيامة ليست خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بالأنبياء؛ بل تَشفع الملائكة ويَشفع المؤمنون بدرجاتهم: (العلماء والشهداء والصالحون يشفعون)؛ كما ثبت في الصحيح أنَّ الله سبحانه وتعالى يقول يوم القيامة «شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيأمر الله سبحانه وتعالى بأقوام في النار لم يعلموا خيرا قط أن يخرجوا»

مسألة : هل يوجد من يشفع ولا تقبل شفاعته ؟ 

الجواب نعم ، ومن ذلك ما ورد عن خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

فروى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ « يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ فَيَقُولُ اللَّهُ إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ » 

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَعَلَى وَجْه آزَرَ قَتَرَة وَغَبَرَة، فَيَقُول لَهُ إِبْرَاهِيم: أَلَمْ أَقُلْ لَك لَا تَعْصِنِي؟ فَيَقُول أَبُوهُ: فَالْيَوْم لَا أَعْصِيك، فَيَقُول إِبْرَاهِيم: يَا رَبِّ إِنَّك وَعَدْتنِي أَنْ لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيّ خِزْي أَخْزَى مِنْ أَبِي الْأَبْعَد، فَيَقُول اللَّه: إِنِّي حَرَّمْت الْجَنَّة عَلَى الْكَافِرِينَ، ثُمَّ يُقَال: يَا إِبْرَاهِيم مَا تَحْتَ رِجْلَيْك؟ اُنْظُرْ، فَيَنْظُر فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ مُتَلَطِّخ، فَيُؤْخَذ بِقَوَائِمِهِ فَيُلْقَى فِي النَّار "

فهذا لما مات مشركًا لم ينفعه استغفار إبراهيم مع عظم جاهه وقدره عند الله سبحانه وتعالى.

سادسا: إذا تقرر أن الشفاعة لا يملكها أحد من المخلوقين، وإنما هي حق لله تعالى، فإنها تطلب من الله ولا تطلب من المخلوق. 

مسألة : ما حكم طلب الشفاعة من المخلوقين ؟ 

أولا : طلب الشفاعة من الأحياء .

الحيّ الحاضر الذي يسمع يجوز أن يستشفع  وذلك بطلب الدعاء منه.

 ولهذا سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم أن يشفع لهم في حياته صلى الله عليه وسلم لأنه حي حاضر يسمع.

وقد ثبت في الصحيح أن عمر رضي الله عنه لما جاءت المجاعة وأصاب الناس الكرب في عام الرَّمادة أنه قال لما استسقى بالناس(اللهم إنا كنا إذا أجدبنا استسقينا بنبيك، وإنا الآن نستسقي بعم نبيك اللهم فأسقنا، يا عباس قم فأدعُ ربَّك)

فدل هذا على أنهم كانوا يطلبون الشفاعة من النّبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيا : طلب الشفاعة من الأموات .

وهذا الطلب محرم، وهو ما كان عليه أهل الشرك، فإنهم كانوا يقولون: ما دعوناهم – أي الأصنام - وتوجهنا إليهم إلا لطلب القربة والشفاعة، قال الله سبحانه وتعالى سبحانه: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، وقال سبحانه {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ}. 

فإذا علمنا أن الشفاعة حق خالص لله تعالى لا يعطيه الله لأحد من خلقه إلا بشروط أهمها : الإذن والرضى، علمنا خطأ من طلب الشفاعة من ميت بسبب جاهه وسلطانه عند الله" 

وسبب وقوعهم في هذه الشبهة : 

أنهم اعتقدوا أن الشفاعة عند الله من جنس شفاعة الناس بعضهم لبعض، والصحيح خلاف ذلك .

فالشفاعة عند الله تكون في مقام الافتقار وليست في مقام الوجاهة، فالعبد إذا شفع عند الله فإنما يشفع وهو عبد ذليل مفتقر إلى الله .

والشفاعة عند أهل الدنيا تكون لمن له جاه وعز عند المشفوع عنده ، والمشفوع عنده يجيب شفاعة هذا الشافع لما يرجوه عنده من إجابة شفاعته في يوم ما، فالمشفوع عنده له فضل على الشافع يرجوه في يوم ما.

أما الشفاعة عند الله فهي ليست من هذا القبيل، بل هي إكرام من الله لمن شاء من عباده أن يكون شفيعا ثم يكرم من شاء من عباده أن يؤذن له  في الشفاعة، فالفضل فيها لله ابتداء وانتهاء . 

وللرد عليهم يقال : 

أولا : الشفاعة يوم القيامة لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى ، قال تعالى " قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا " فلا تطلب إلا من الله . 

ثانيا : الشفاعة لكي تمنح من الله للعبد لها شرطان : الإذن من الله للشافع بأن يشفع، ورضى الله عن الشافع والمشفع فيه.

فهل تعلم أن الله أذن لمن سألته في الشفاعة ؟ الجواب لا  . 

فإن أذن له فهل تعلم أن الله رضي له في أن يشفع لك، وهل الله رضي عنك ليمكنه من الشفاعة فيك ؟ الجواب لا .

قال تعالى " قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ، وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ"  ، إذا اطلب الشفاعة من مالكها وليس ممن لا يمكلها . 


سابعا : قالت المعتزلة والخوارج : الشفاعة لأهل الكبائر لا تنفع، ولا لمن في النار  لقول الله :{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48]. ووجه الاستدلال عندهم من الآية أنَّهُ قال { شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} بالجمع، فدلت الآية على أنَّ من في النار لا تنفعه الشفاعة لأجل عموم لفظ الشافعين فهو عام في كل من يشفع.

والرد عليهم من وجوه : 

الأول :أنَّ هذه الآية جاءت في سياق ذكر الكفار وأنهم في النار، فقال سبحانه وتعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42)قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44)وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45)وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46)حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47)فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:42-48]، فقوله {فَمَا} الفاء هنا ترتيبية تُرَتِّبُ النتيجة التي بعدها على الوصف الذي قبلها، والوصف الذي قبلها في الكافرين الذين وصفهم بقوله {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43)وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} ووصفهم بقوله {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهؤلاء هم الكفار.

والمسألة التي هي الشفاعة لأهل الكبائر هي في مَنْ كان مسلماً، أما المكذّب بيوم الدين والذي لم يصحَّ إسلامُه فإنه ليس هو محل البحث.

الثاني : أنَّ قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح «شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» رواه أبوداود، نص لا يحتمل التأويل، وكذلك قوله « أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ . خَالِصًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ » رواه البخاري،  هذا فيه ظهور في الدلالة؛ لأنها تعم من قال لا إله إلا الله مخلصاً وصاحب الكبيرة قالها.


هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة في باب الشفاعة، والله أسال الإعانة والتوفيق، والحمد لله رب العالمين .

 


الثلاثاء، 8 سبتمبر 2020

مقال : النص الشرعي بين التسليم والعقل ج 2

بسم الله الرحمن الرحيم 

( رد النص الشرعي ) 


الحمد لله رب العالمين، وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده و رسوله، أما بعد 


فقد تكلمنا في ما سبق عن تعظيم المؤمن للنص الشرعي الصحيح الثابت، وعن التسليم والإذعان له، وإن مما يضاد ذلك ردّهُ وعدم قبولهِ رغم ثبوتهٍ وصحته، بل ربما مع إجماع العلماء على حكمه ومقتضاه، ومعارضتهُ برأي أو قول لمفكر أو فيلسوف وربما لمستشرق حاقد.


ومما هو معلوم قطعاً أنه لا يجوز للمسلم أن يردّ ما ثبت من النص الشرعي في كتاب الله تعالى أو ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لتعلق الأمر بعقيدته وإيمانه، قال الله سبحانه وتعالى : " إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " [النور:51 ] ، قال المفسر السعدي رحمه الله في تفسيره للآية: "  أي: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ} حقيقة، الذين صدّقوا إيمانهم بأعمالهم، حين يدعَونَ إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة، سالمة من الحرج، {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} حصر الفلاح فيهم؛ لأنّ الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حَكّمَ الله ورسوله، وأَطاعَ الله ورسوله. " ا.هـ 


وأخبر الله سبحانه أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن تَخيّر بعد ذلك فقد ضل ضلالاً مبيناً، قال الله سبحانه وتعالى : " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا" [الأحزاب:36].

 قال ابن القيم رحمه الله: " فاختيارُ العبدِ خلافَ ذلك منافٍ لإيمانه وتسليمه، ورضاه بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً."  مدارج السالكين (2/ 185)


 وأقسم الله عز وجل على أنّ العباد لا يؤمنون حتى يحكموا رسوله صلى الله عليه وسلم فيما وقع بينهم من خلاف، ولم يرض بذلك، بل لا بد وأن يرتفع الحرج من نفوسهم من حكمه، وحتى يسلموا لحكمه تسليماً.

 وهذا حقيقة الرضا والتسليم بحكمه، فقال الله سبحانه وتعالى : " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " [النساء:65]

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية : " قوله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقسمُ تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحدٌ حتى يحكم الرّسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحقُ الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً؛ ولهذا قال: { ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أي: إذا حكّموك يطيعونكَ في بواطنهم، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به، وينقادون له في الظاهرِ والباطنِ، فيسلمون لذلك تسليماً كلياً من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة. " تفسير ابن كثير (2/ 349)


 وقال ابن القيم رحمه الله :" فأقسم سبحانه أَنَّا لا نؤمن حتى نحكّم رسولهُ في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا لحكمه، فلا يبقى فيها حرج، ونسلّم لحكمه تسليماً، فلا نعارضه بعقل ولا رأي، فقد أقسم الله سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول، وقد شهدوا هم على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه. " مختصر الصواعق ص: 116 "


وبيّن الله سبحانه وتعالى أنّ ردّ النص الشرعي قد يفضي بصاحبه إلى الوقوع في الشرك والكفر بالله تعالى، فقال : " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] .

 روى ابن بطة العكبري رحمه الله في كتابه (الإبانة الكبرى) (260/ 1) عن الفضل بن زياد قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل يقول: نظرتُ في المصحف فوجدتُ فيه طاعةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }  وجعل يكررها، ويقول: وما الفتنة؟ الشرك. لعله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ فيهلكه . " 


وتأملوا معي إلى هذا الموقف الذي فيه بيان عاقبة من ردّ النص الشرعي لهواه وفكره، وإلى أيّ مدى وصل به الحال، قَالَ الذَّهَبِيّ رحمه الله في كتابه ميزان الاعتدال في نقد الرجال : عبيد الله بن معَاذ، عَن أَبِيه أَنه سمع عَمْرو بن عبيد ( وهو رأس المعتزلة )  يَقُول: وَذكر الحَدِيث عَن الصَّادِق المصدوق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم – يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ .... " وقد رواه البخاري ومسلم.

 فَقَالَ عَمْرو بن عبيد: لو سَمِعت الْأَعْمَش يَقُوله لكذبته، وَلو سمعته من زيد بن وهب لما صدقته، وَلَو سَمِعت ابْن مَسْعُود يَقُوله مَا قبلته، وَلَو سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول هَذَا لرددته، وَلَو سَمِعت الله يَقُول هَذَا لَقلت: لَيْسَ على هَذَا أخذت ميثاقنا" ا.هـ ، نسأل الله السلامة والعافية.


وهذه العاقبة نراها اليوم رأي عينٍ في بعض متصدري الإعلام من أرباب الفكرِ المنحرف، إذ رفعوا راية تحكيم العقل وعدم التقليد الأعمى، ثم تطور حالهم إلى التشكيك في السنة وكتبها كالبخاري ونحوه، وانتهى بهم الحال إلى التشكيك في أصول الدين وأسسه تحت مسمى نقد الموروث، ولا يُستبعد وقوع بعضهم في الإلحاد والعياذ بالله.


فأصلُ كلِ شرٍ معارضةُ النّص الشرعي الصحيح الثابت بالرأي والمعقول، وتقديمُ الهوى على الشرع، قال الله سبحانه: "فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50]


وأمةُ الإسلام بجميع فِرقِها تثبت القرآن الكريم، ولا يستطيع فرد منها ولا من غيرها أنْ يحرف أو ينكر حرفاً منه، ولكن الأمر مع السنة مختلف تماماً، إذ تجرأ عليها من لا علم له بها، فبدؤوا يردون السنة إما جملة أو بالاختيار والتشهي.  


وأمّا أهل السنة فيعتقدون أنّ النّص الشرعي كتاباً كان أو ما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم حجة بنفسه في العقائد والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية والحدود والقصاص وجميع أمر الشرع، قال الطحاوي في العقيدة الطحاوية : " وَجَمِيعُ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّرْعِ وَالْبَيَانِ كُلُّهُ حَقٌّ ".


واشتد نكير الصحابة رضوان الله عليهم على من عارض النص الشرعي بمجرد رأيه وهواه، ومن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي قَتَادَةَ حَدَّثَ قَالَ كُنَّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنه فِي رَهْطٍ مِنَّا، وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ، فَحَدَّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ ". قَالَ أَوْ قَالَ : " الْحَيَاءُ كُلُّهُ خَيْرٌ ".

 فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ أَنَّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارًا لِلَّهِ وَمِنْهُ ضَعْفٌ. قَالَ فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتَّى احْمَرَّتَا عَيْنَاهُ وَقَالَ: أَلاَ أُرَانِي أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَتُعَارِضُ فِيهِ.


فنجد الصحابي الجليل يغضب من بشير بن كعب لأنه عارض حديث النبي صلى الله عليه وسلم بما في بعض الكتب من أقوال، لأن الصحابة رضوان الله عليهم تربوا على تعظيم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعدم تجاوزها إلى غيرها.


وهاك مثالاً آخر يدلك على شدة تعظيم الصحابة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم على من يعارضها بقول أو رأي، فروى مسلم عن سَالِم بْن عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رضي الله عنه الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: " لاَ تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمُ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا ". قَالَ فَقَالَ بِلاَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ. قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ فَسَبَّهُ سَبًّا سَيِّئًا مَا سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَقَالَ أُخْبِرُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَقُولُ وَاللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ.

والسب المذكور في الحديث فسرته بعض الروايات بالدعاء عليه، وبلال المعترض ولد عبد الله بن عمر رضي الله عنه الله عنهما، ومع ذلك لم يمنعه قربه منه وصلة الرحم بينهما من الشدّةِ عليه وتأديبه، تعظيماً لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وزجراً لمن رد شيئاً منها.


وعلى هذا كان الصحابة رضوان الله عليهم في تعظيمهم لسنةِ النبي صلى الله عليه وسلم وشدتهم على من يعارضها برأي أو قول، قال ابن القيم رحمه الله : "  فانظر هل كان في الصحابة من إذا سمع نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضهُ بقياسهِ، أو ذوقهِ، أو وجدهِ، أو عقلهِ، أو سياستهِ؟ 

وهل كان قط أحدٌ منهم يقدمُ على نصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلاً أو قياساً، أو ذوقاً، أو سياسةً، أو تقليد مقلد؟ 

فلقد أكرم الله أعينهم وصانها أنْ تنظرَ إلى وجه من هذا حاله، أو يكون في زمانهم، ولقد حَكمَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه على من قدّم حكمهُ على نصّ الرسول بالسيف، وقال: هذا حكمي فيه، فيالله! كيف لو رأى ما رأينا، وشاهد ما بُلينا به من تقديم رأي كل فلان وفلان على قول المعصوم صلى الله عليه وسلم، ومعاداة من اطرح آراءهم، وقدم عليها قول المعصوم؟ فالله المستعان، وهو الموعد، وإليه المرجع. " مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 334)


 وجميع العلماءِ والأئمةِ الأعلام على الاحتجاج بالنص الشرعي وتعظيمه، ولا يقدمون عليه أي دليل آخر. ومن الأمثلة على ذلك ما نقله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 24)  عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله قال : وَكَانَ فَتَاوِيهِ مَبْنِيَّةً عَلَى خَمْسَةِ أُصُولٍ: [أُصُولُ فَتَاوَى أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ] أَحَدُهَا: النُّصُوصُ، فَإِذَا وَجَدَ النَّصَّ أَفْتَى بِمُوجَبِهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى مَا خَالَفَهُ وَلَا مَنْ خَالَفَهُ كَائِنًا مَنْ كَانَ ....  وَلَمْ يَكُنْ يُقَدِّمُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَمَلًا وَلَا رَأْيًا وَلَا قِيَاسًا وَلَا قَوْلَ صَاحِبٍ وَلَا عَدَمَ عِلْمِهِ بِالْمُخَالِفِ الَّذِي يُسَمِّيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ إجْمَاعًا وَيُقَدِّمُونَهُ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ" وهكذا بقية الأئمة الأعلام .


وتأملوا معي إلى موقف الإمام الشافعي رحمه الله الذي يبين موقف المسلم من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سَمِعْتُ الْحُمَيْدِي يَقُولُ: كُنَّا عِنْدَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَتَاه رَجُلٌ فَسَأَلَه عَنْ مَسْأَلَةٍ، فَقَالَ: قَضَى فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ رجُلُ لِلشَّافِعِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟! فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَرَانِي فِي كَنِيسَة! تَرَانِي فِي بِيعَة! تَرَى على وَسَطِي زُنَّار؟! أَقُولُ لَكَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ تَقُولُ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟!


فالمسلم يثبتُ على طريقتهم وهديهم، ولا يلتفت إلى من يزهد المسلمين في الوحي بحجج واهية، وادّعاءات كاذبة، وأوهام ساقطة لا تقوم على أساس صحيح. 


والعجب من أقوام من المسلمين سايروا أهل الاستشراق المعادين للإسلام وأصوله، فصاروا يلوكون شبهاتهم حول النص الشرعي، ويتقيؤونها في برامجهم وفي وسائل التواصل الاجتماعي تحت مسى الحداثة والعصرانية ونقد الموروث، وليس هدفهم إلا الطعن في النص الشرعي وفي أصول الدين وثوابته، فأمثال هؤلاء يُنبذون ولا يُتابعون، قال الله سبحانه وتعالى محذرا منهم: " {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف: 28].


فهؤلاء أهلُ انحرافٍ عقدي وأهلُ ابتداع في الدين، كما وصفهم ابن تيمية رحمه الله بقوله : " فلا تجد قط مبتدعاً إلا وهو يحب كتمان النصوص التي تخالفه، ويبغضها، ويبغض إظهارها وروايتها والتحدث بها، ويبغض من يفعل ذلك، كما قال بعض السلف: ما ابتدع أحد بدعة إلا نزعت حلاوة الحديث من قلبه. " درء تعارض العقل والنقل (1/ 221)


فلا يرد النص الشرعي إلا من كان محادّاً لله ولرسوله، وقد قال الله سبحانه وتعالى: " {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 63] ، وقال الصديق أبوبكر رضي الله عنه: " لَسْتُ تَارِكًا شَيْئًا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَعْمَلُ بِهِ إِلاَّ عَمِلْتُ بِهِ ، فَإِنِّي أَخْشَى إِنْ تَرَكْتُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ" رواه البخاري ومسلم، فمن يرد سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة معرضٌ نفسهُ للزيغ والانحراف .


قال ابن بطة رحمه الله: "  هذا يا إخواني الصديق الأكبر يتخوف على نفسه الزيغ إن هو خالف شيئاً من أمر نبيه صلى الله عليه وسلم، فماذا عسى أن يكون من زمان أضحى أهله يستهزئون بنبيهم وبأوامره، ويتباهون بمخالفته، ويسخرون بسنته؟ نسأل الله عصمة من الزلل ونجاة من سوء العمل." الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 246).


ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم بعض خصال أهل النفاق والتي منها الإعراض عن النص الشرعي والصد عنهم، فقال سبحانه : " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } [النساء: 61]، فكذلك كل من رد النص الشرعي لمجرد هواه ورأيه فإنّ فيه هذه الخصلة من خصال أهل النفاق.


فالحذر الحذر من أمثال هؤلاء الشرذمة من الناس، ممن زاغت قلوبهم، وضلت عقولهم، جاء عن التابعي الجليل أبي قلابة قال: إذا حدثت الرجل بالسنة، فقال: دعنا من هذا وهات كتاب الله، فاعلم أنه ضال. " 


قال الذهبي معلقا على الأثر:  وإذا رأيت المتكلم المبتدع يقول: دعنا من الكتاب والأحاديث الآحاد وهات العقل، فاعلم أنه أبو جهل. " سير أعلام النبلاء ط الرسالة (4/ 472)


فعلى المسلم أن يعتز بدينه وبعقيدته، ولا يجعل دينه عرضة لأهل الزيغ والانحراف يتلاعبون به تحت مسمياتٍ مبهرجة، وادعاءاتٍ كاذبة، وشبهاتٍ مضللة، قال ابن بطة رحمه الله – في كتاب الإبانة الكبرى (1/ 260) : " فالله الله إخواني احذروا مجالسة من قد أصابته الفتنة فزاغ قلبه، وعشيت بصيرته، واستحكمت للباطل نصرته، فهو يخبط في عشواء، ويعشو في ظلمة أن يصيبكم ما أصابهم، فافزعوا إلى مولاكم الكريم فيما أمركم به من دعوته، وحضكم عليه من مسألته، فقولوا:{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } [آل عمران: 8]. ا.هـ


 فالنجاة الحقيقية لن تتحقق للعبد إلا كما قال تعالى : " {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88، 89] والقلب السليم هو قلب المؤمن السالم من كل شبهة في الدين كالشرك بالله والبدع والرياء، والسالم من كل شهوة في الدنيا من الذنوب والمعاصي، قال ابن القيم –رحمه الله-  ( الداء والدواء 187): (ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والاخلاص" ا.هـ


وفقني الله وإياكم لكل خير، والحمد لله رب العالمين .